بنان الخالدي

أحمل في داخلي شوقًا لا يُشبه الشوق المعتاد، بل هو حنين خافت، يتجه نحو تفاصيل صغيرة من ماضٍ بعيد، من «بنان» القديمة – تلك النسخة من حياتي التي لم أكن أفهمها تمامًا، والتي ما زالت تحتفظ بملمس ضبابي غامض حتى بعد أن تجاوزتها.
هناك لحظات وأماكن وأشخاص، مرّوا في حياتي بلا تفسير، بلا معنى واضح، بلا موقع محدد في ذاكرتي. لم أكن أملك آنذاك القدرة على فهمهم، وربما لم أسعَ بجدية لأن أفعل. لذلك، استبعدتهم من عقلي، ووضعت حولهم علامات استفهام كثيرة ثم تركتها مفتوحة، ظنًا أن المعاني يجب أن تكون دائمًا واضحة ومُبررة كي تستحق البقاء.
لكنّي اليوم أدرك شيئًا مختلفًا. أدركت أن الغموض جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، وأن بعض الأشياء لا يُفهم إلا بعد مرور الزمن، وربما لا تُفهم أبدًا – ومع ذلك تبقى ذات قيمة. تعلّمت أنني لا أحتاج دائمًا إلى تحليل كل موقف، ولا إلى فهم كل شعور، ولا حتى إلى تصنيف كل شخص يدخل حياتي. بعض اللحظات نعيشها فقط، نحتويها كما هي، دون أن نُكثر من الأسئلة.
ليست كل الأشياء بحاجة إلى تفسير كي تبقى معنا. بل إن ما يبقى فعلًا، هو ما نجحنا في تقبّله دون مقاومة، ما سكن فينا برفق، وما عرفنا كيف نمنحه مكانًا رغم ارتباكه وغموضه. هكذا تبقى الذكريات، لا لأنها كانت واضحة، بل لأنها كانت صادقة في وقتها، حقيقية في وقعها، حتى وإن عجزنا عن فهمها.
ليس علينا أن نفهم كل شيء، ولكن علينا أن نمنح أنفسنا المساحة لنشعر، وننتمي، ونحتفظ بما لمس قلوبنا، ولو مرّ كعابرٍ لا اسم له. ففي الغموض جمال خفي، وفي القبول دون أسئلة نوع من السلام.